ينعتني البعض بأني غير منطقية، بينما يصفني آخرون- وعن اقتناع- بأني هائمة حالمة، أنا لست هذه أو تلك! حقاً أنا لست كذلك على الإطلاق! أنا فقط أفعل ما يمليه علي ضميري ولا تستهجنه روحي…
–أنا عايزة أطلق يا مراد!
خرجت كلماتي بثقة وأريحية غير معهودتين؛ كنت قد تركتها تختمر لعام كامل وزيادة أجري عليها بعض الحسابات والفحوصات لأتاكد أني استوفيت جميع “البنود” قبل الرحيل. اليوم هو عيد زواجنا، لن أهدر تاريخا آخر من تواريخ السنة ليكون يوما لإنفصالنا! كنت قد فكرت ملياً في خطة الإنفصال. “ساتولى زمام الأمور فلطالما فعلت! سأستأجر لنفسي مكاناً صغيراً في وسط المدينة بالرغم من معارضة أهلي بالطبع والتي أنتظرها ولكنني سأتمسك بموقفي، سبيلي الوحيد لذلك هو ما أجنيه من عملي، سأستمر في عملي بل إنني أفكر أن أضاعف مجهوداتي للحصول على المزيد من الترجمات ولكنني سأحرص ألاّ يأتي العمل على حساب عرض الرقص!
– خايفة أستسلم للإنكسار،ساعتها هخسر قضيتي!
– ايه المشكلة؟!هبكي وأنكسر والزمن أكيد هيداويني
هيداويها بمرارة! أنت متأكدة أنك هتقدري تقاومي الوجع ده!
طيب قولي انت! يعني شايفاني مبسوطة دلوقت؟
الحالتين وجهين لنفس العملة!
اكسبي نفسك قبل فوات الأوان!
أوان ايه اللي هيفوت؟ قصدك الأطفـــ……..؟!
كل وقت وأي وقت يصلح إنه يكون نقطة لبداية جديدة، بس لوكنا فعلا عايزين ده! عمره مافرق معايا ومش هيفرق معايا شوية مسلمات تتقل الحمل على كتافي! أنا مش هعيش غير حياة واحدة ومش هسيب عمري يتسرق مني عشان معتقدات واهية!
“مراد، سمعتني.. أنا عايزة أطلق!”
تحول ذهول مراد في غضون لحظات إلى تعبير عن “الزهق” فقد تحدثنا مراراً في هذه المسألة وفي كل مرة ينهي فيها الحوار دون الوصول لنتائج فعلية، فهو يؤمن تماما أن حوار مسألة الطلاق ماهو إلا “قلة عقل” و “كلام بنات”.
مراد وسيم خلوق، ناجح في عمله،قد يكون حلماً لكثيرات أيضاً، نعم ولكنه جامد، ونمطي إلى حد بعيد مقارنة بأفكاره التي كان يتبناها قبل زواجنا. ملئ جلباب أبيه بعد أن كان يعدو هرباً منه!
أراجع ما كنت قد خططت له مسبقاً، الدخل، السكن، نشاطاتي التي ستتكفل بأن تعيدني لنفسي، وأخيراً أهلي..
والدايّ على علم بمخططاتي وماكنت أفكر فيه، بالطبع دون عرض التفاصيل برمتها عليهم فيزيد ذلك من تعقيد الأمور.
كنت قد أعددت حقائبي مسبقاً وتركتها بأحد أركان المنزل، لم يرها مراد كما لا يرى الكثير من الأمور، (لم يرَ أو بالأحرى لم يكن يود أن يرى أنه قد رفع أسوارأ عالية بيننا بانشغاله الدائم، ومزاجه المتعكر طيلة السنوات الماضية، لم يكن يريد أن يرى أنه يقصيني بعيداً بأفكار متحجرة …..)
ليلى: أحب أن كل حاجة تتم بهدوء. مافيش داعي للمشاكل، أو حتى قلب الطرابيزة، خلينا ننفصل بشكل متحضر، أنا لميت كل حاجتي وهسيب البيت الليلة..
* * * * * * * * * * *
على ظهر فندق سونستا العائم والمتجه بدوره إلى أسوان ومن ثم إلى الأقصر تمددت على إحدى الشيزلونجات المبطنة بحرفيه عالية بحيث تشعر وكأنك على فراش وثير في قلب حجرة ملكيه في أحد الفنادق العريقة ذات الطابع الفرنسي وفي نفس الوقت أنت تطل على أكثر مناظر الطبيعة بهاءً على الإطلاق! زرقة المياه خلابة، تشي بشئ من اللانهائية الحالمة وكثير من الإغواء، تنتهي عند حزام أخضر من مجموعات شجرة “المستحية” التي تعرف بها أسوان، لطالما كانت المساحات الخضراء الشاسعة أملاً للتجدد والتبدل من حال إلى أفضل! منظر يسلب القلب يهيب بالشجن داخلك.. أنا الآن تماما في البقعة التي أردت أن أكون فيها من هذا العالم!
زاد جمال المنظر من تمددي على الكرسي الوثير، وكنت قد تأكدت أن لاشئ من الماضي-الذي لم يمض عليه إلا سويعات- يرافقني، لا أشياء ولا أشخاص!
عملت جاهدة أن لا يصاحبني في رحلتي إلى المستقبل هذه إلا من وما أردت فعلا، سارة وجميلة، تتمددان بجانبي، جميلة تقبع في المنتصف، بينما إختارت سارة آخر كرسي “من الشمال”، كنت قد تعرفت بهما بشكل منفصل في إحدى ورش الرقص الحديث، شاء القدر أن يجمعني بهن لنفس الأسباب التي أنهت زواجي بمراد. الفكر والتناغم!
فرضت اللحظة رغبتها في أن ت “بروّز”
أمسكت بهاتفي المحمول أضحك بصوت عال قبل أن أقوم بفعل أو قول أي شئ لهن- فهذه عادتي عندما أنوي القيام بمصيبة على مقاسي المتواضع 🙂
ياللا نتصور، Say Cheeeeeese!
صورة لأقدام ثلاثتنا! وضعتها على حسابي في الإنستجرام وكتبت
A walk to remember!
*****************************************************
*****************************************************
“الخطوة نصيب”*
الجميلات..
هذا ماسيطرق إلى فكرك فورأن يسقط نظرك عليهن! في الحقيقة أن ثلاثتهن يتنافسن على اللقب، جميلة بسمرتها الأخاذة وشعرها المجعد في شكل سست اسطوانية طويلة ، جمالها نوبي بحت، لها عينان واسعتان بلون حبات البندق ورموش غزيرة شديدة السواد متراصة تسدل ستارا على عينيها كلما نظرت إلى قرص الشمس المشتعل هذا الصباح، اتخذت جميلة من الشيزلونج في الوسط –بين ليلى وسارة- مجلساً لها. فتاة تشع حيوية لاتكف عن طرح الأفكار والأسئلة والنكات وأحياناً كثير من الثرثرة الغير هادفة….
جميلة: ليلى إنت كويسة؟
ليلى: آه كويسة، الحمدلله؟ مالي؟ قصدي مالك؟
جميلة: مافيش! بطمن عليكي! عمل إيه لما قلتيله إنك جاية العرض؟
ليلى: لا ماقلتلوش؛ مش محتاجة أأقله. أنا طلبت الطلاق. لميت حاجتي وسبت البيت.
فُتحت عينا جميلة في ذهول وكأن حبات البندق ستسقط بفعل هزة أرضية شديدة حدثت لتوها من جراء ماسمعته من ليلى..
في هذه الأثناء كانت سارة تضع سماعات هاتفها في أذنيها في محاولات مستميتة لتهدئة نفسها كلما تخيلت يوم العرض في الأقصر.
جميلة: طلاق! طلبت الطلاق يا ليلى؟! وتصمت لبرهة وكأنها تفكر ثم تسترسل وتقول: يعني ماكنش في حل تاني غير “الطلاق”!
ليلى: حل تاني زي ايه؟ العرض ده مش أول خلاف بينا، مش أول كلام في “الممنوع” يا جميلة، ده بس “القشة التي قسمت ظهر البعير”. ماقدرش أنكر إني موجوعة قوي بس وجع ساعة ولا وجع كل ساعة! بس كمان مش مخضوضة خالص، من كتر مافكرت في الموضوع ده وطّنت نفسي عليه، أكيد إجراءات الإنفصال هتوجعني وهستغرب بعدي عنه بعد كل السنين ده، بس أنا بقالي سنة وشوية بفكر، وأحلل، ومستنية آخذ نتيجة سلبية! دايما كانت كفة نتايج التحليلات والإختبارات اتقل من كل حاجة تانية.
خمس سنين تروح ولاّ عمر بحاله؟ مش هقدر أتحبس في قفص أفكاره ومعتقداته اللي هو أصلا مش بيراجعها أوحتى يخطرله يشكك فيها! حياة بلا حياة! أنا كنت ابتديت أنسى أنا مين وأتحول إلى إحدى ضحايا منظومة الزواج المكلله ببلادة العقل والروح مكبلة بجنازير شوية كليشيهات على أعراف فاشلة هدفها هو تحويلنا إلى مسخ..
تشعر سارة أن شيئا ما يعتمل ويختمر في الحديث بين ليلى وجميلة ، تشد السماعات بكلتا يديها وتهب نصف قائمة فيتسنى لها النظر في وجهيهما وتفحصه..
سارة: مالكوا في ايه؟ بتحكوا في إيه؟
تصمت جميلة محتفظة بحق الرد أو الإفصاح لــ ليلى..
تشاطرها ليلى الصمت، ثم تنأى عن الرد و “تتوه” الموضوع وكأنها تقول “يكفي الماضي اللي أخده” ثم تقول بابتسامة واسعة وضحكة خبيثة:
ما تيجوا نتصور أحسن!
ليلى إلى اليمين في حذاء يعكس زرقة السماء وأملا في حياة ثرية كالبحر!
جميلة، لم يخلوا حذائها من شعرة الجنون الخاصة بها، جميعه أسود تشقه ثلاث خطوط بيضاء متوازية، ثم ينتهي بتاج فوشيا فاقع يضفي الكثير من الحيوية عليه، وأخيراً سارة، حذاءها أبيض ينم عن شئ من اللامبالاه وعن اضطراب مزاجها هذا الصباح.
علت ضحكاتهن لرؤيتهن الصورة، فقد ظنن أن ليلى كانت تصور وجوهنن وليس أقدامهن! استمرت سارة في الضحك عندما رأت انها ترتدي جورباً أسود بدلا من ذلك الأبيض الذي كانت قد جهزته هذا الصباح…
تعيد سارة وضع سماعاتها وتختفي داخل مخاوفها، تضع جميلة نظارة الشمس وتسدل ذاك الستار على حبات البندق وتسترخي، أما ليلى فتستند إلى الكرسي الوثير وتخرج رواية
كانت قد حفظتها لهذه الرحلة… “الخطوة نصيب”*
*إسم القصة مستوحى من رواية لإلهامي عمارة تحمل نفس الإسم